الخميس، 14 فبراير 2013



تكملة الأمالي العراقية 

زيد كاظم الجوادي 

بسم الله الرحمن الرحيم 


الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله الطيبين الطاهرين 

وبعد



فإنه ليس بوسع مَنْ عرف شيخا السيد عداب الحمش أو سمع عنه، إلا معرفة الحقبة العراقية من تاريخه الحافل. كما أنه ليس بإمكان أحد أن يعرف الحقبة العراقية دون معرفة "الأمالي العراقية".

ولقد كانت هذه الأمالي تسجيلاً واقعياً لدروس شبه عامة كان يعقدها الشيخ حفظه الله في منزله في حي جميلة في بغداد، يحضرها بشكل منتظم عشرون طالباً، ربما زادوا على ذلك أحياناً وربما قلّوا.

بدأ انعقاد هذه الدروس تحت هذا العنوان بعد سنوات من دروس مختلفة في الحديث وأصول الفقه والتجويد، حتى بدا للشيخ حفظه الله تعالى أن يُعِدَّ خلاصةً من التلاميذ للإجازة الحديثية العامة الشاملة، يجمع فيها بين منهج إجازات الرواية وبين منهجه في النقد الحديثي، فقد كان حفظه الله تعالى لا يرى كمال إجازة الرواية دون معرفة الـمُجاز بـمهماتٍ من الدراية.

وعلى هذا الأساس انعقدت مجالس الإجازة الحديثية العامة في العراق، وبقيت منعقدة ما بين عام 1419 و1420 للهجرة أي بين عام 1998 وعام 1999 للميلاد. تخللتها مواعظ كثيرة وفوائد لا تحصى في شتى مجالات المعرفة، ما بين علوم الحديث، والقراءات، والإسناد، والتفسير، والسيرة، والتاريخ، والأدب، والنحو، والصرف، وغير ذلك.

بدأتْ هذه الأمالي بمقدماتٍ في المصطلح وطرق التحمل والأداء، ثم في قواعد تخريج الحديث النبوي ونقده، نَفَعَتْ وأمتَعَتْ، وتميزتْ بسعة الأفق وعُمقِ الفهم.

وتضمنتْ قراءةً حديثيةً لأحد عشر كتاباً من كتب الحديث، هي: موطأ مالك، ومسند أحمد، وسنن الدارمي، وسنن أبي داود، وسنن ابن ماجه، وجامع الترمذي، وسنن النسائي، والصحاح الأربعة: البخاري، ومسلم، وابن خزيمة، وابن حبان. وهذه القراءة الحديثية شملت التعريف بكل كتاب من هذه الكتب وبمنهج مؤلفه فيه، ثم قراءة الإسناد الموصل إليه، مع عدد من أفراده، وبيان النكت التي يشتمل عليها.

وكان ختام هذه الأمالي يوم الخميس 3/6/1999 للميلاد، ثم طُبعتْ، وأجري اختبار للطلاب فيها.

غير أنه وكما أسلفنا، لم تكن دروس تلك الأمالي مقتصرة على ما ذكرنا من كتب الحديث الشريف؛ فالشيخ حفظه الله كان كثير الإشارة والحديث عن ما وراء هذه الكتب من مصادر حديثية عند المسلمين.

وقد تميز منهجه بعدم إغفال أي مذهب من المذاهب، بل إنه كان يطلب من تلامذته التعرف على مصادر المذاهب الإسلامية بدءاً من أصول الفقه، ومروراً بكتب الحديث، حتى لا يكون الطالب جاهلاً بمذهب غيره، فينشأ متعصباً غير قادر على التعايش مع مخالفه في الرأي.

ولقد لاقى شيخنا الفاضل عنتاً من المتعصبين وأصحاب العقول المنغلقة إزاء منهجه هذا، وصبر على وحشة الطريق الذي اختاره، والكيد والإفتراء الذي تعرض له.
ثم كان أن غادر العراق ما يقرب من عام، عاد بعده وهو مشوقٌ إلى تلامذته، وهم إليه أشوق.

إستأنف الشيخ دروسه مع تلامذته، وكان مما فعله أن أضاف للأمالي إضافات مهمة وهي دراسة الكتب الآتية:
1. مسند الربيع بن حبيب البصري الإباضي.
2. مسند الإمام زيد المعروف بالمجموع الكبير.
3. الحاكم النيسابوري وكتابه المستدرك.

ثم قدم فواتح عن كتب الشيعة الإمامية: كتاب الصدوق، والكافي للكليني، والشيخ أبو جعفر الطوسي ومنهجه في كتاب تهذيب الأحكام، والإستبصار.
هذا كله في عام 2002 للميلاد.

وإذا أردنا الإفاضة في الحديث عن منهج الشيخ، فإن ذلك يحتاج إلى بحث مستقل، غير أنني في إطار الحديث عن الأمالي العراقية أؤكد على أن المطبوع منها هو الجزء الأول فقط، أما الجزء الثاني الذي أملاه بعد عودته إلى العراق عام 2002 للميلاد، فإنه غير مطبوع، وهو بجملته مع الجزء الأول يوضح ملامح المنهج العلمي المميز لفضيلة الشيخ.
وتجدر الإشارة إلى أن مجلس الشيخ كان مثالاً نادراً للجسد الإسلامي الواحد، يضم طلاباً من مذاهب مختلفة، كلهم يحب الشيخ ويحبه الشيخ، وكلهم يودون الإفادة من علمه ويحاورونه بحرية، كما أنهم يحبون بعضهم وتربطهم صلات طيبة متينة، يعود الفضل فيها بعد فضل الله تعالى إلى شيخنا الفاضل المتأسي بسيرة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع أصحابه الكرام، وآل بيته الطاهرين.

فقد كان شيخنا حريصاً على الألفة بين تلامذته جميعاً الذين فيهم أولاده الطيبون، إلى جانب غيرهم، فلم يكن يميز بينهم تمييزاً يوغر صدر أحد منهم على زملائه، بل كان يعير كل من يحضر مجلسه كثيراً من الإهتمام ويتفقدهم جميعاً.

هذه خلاصة ما يميز الحقبة العراقية من مسيرة الشيخ جزاه الله خيراً، وبارك في عمره وعلمه وعمله وذريته وتلامذته. وإن له في القلوب منزلة، وفي العقول محلاً وفي البصائر أثراً... فكم من متحير عرف اليقين والحق في مجلسه، وكم من مغرض متربص كان يحضر درسه عيناً وكيداً، أصبح فاهماً عارفاً بالحق... كما قال ربنا سبحانه وتعالى: ((فإذا الذي بينكَ وبينهُ عداوةٌ كأنهُ وليٌّ حميمٌ)) فصلت - 34

أسأل الله تبارك وتعالى أن يمده بالعافية وأن يجمعنا به في خير حال، ننهل من فيض علمه، ونتفيأ ظل مجلسه، كما نسأله تعالى أن يمدنا بالعافية والقوة لنبلغ علمه، وننشر منهجه خدمة لهذا الدين القويم، ووفاءً له وعرفانا.


هذا وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، والحمد لله رب العالمين

الخميس، 10 يناير 2013



بسم الله الرحمن الرحيم
)ولا تَكْتُمُوا الشَّهادةَ، ومَن يَكْتُمْها؛ فإنَّه آثمٌ قلبُه، والله بما تعملون عليم( [البقرة: 283]
الوحدان من رواة الصحيحين..
رسالة في الطريق إلى إصلاح واقعنا العلمي المعاصر
بقلم: فراس بن عبد الرزاق السودانـي
تمهيد:
لكثيرةٌ هي الرسائلُ العلمية التي تُقدَّم إلى جامعاتنا الإسلامية العامرة؛ إلا أنَّ القليل منها ما يترك بصمةً واضحة في مسيرتنا العلمية المعاصرة، بما يخدم الأمة واحتياجاتها المتجدِّدَة.. وربما كان ذلك مما لا يتصلُ بتخلفنا عن ركب الحضارة أو ريادتنا لذلك الركب؛ إذ إن الإبداع نادرٌ في كلّ زمانٍ وفي كل مكان.. وإلا لم يكن إبداعاً أصلاً!
إلا أنَّ ما يتَّصل بقضية موقعنا من ركب الحضارة تخلفاً وريادة هو كبْتُ المبدعين وقتل المواهب التي تنبغ هنا وهناك في أرجاء أمتنا المنكوبة!!
فأمة الغرب –بوصفها قائدةً لركب الحضارة اليوم- إذا نبغَ بينهم نابغة؛ احتضنوه وسخَّروا الطاقات لخدمته، وعزَّروه بما يليق بإبداعه.. وفوق ذلك؛ فهم في بحث دائمٍ دائب عن النوابغ وأرباب المواهب.
أما نحن..! فإذا ما قام فينا قائم بفكرة؛ ثبَّطناه وحاربناه.. وربما كان جزاؤه منا جزاء سننمار!
وسبب ذلك –عندي- أننا أمةٌ فردية أنانية؛ رغم أنَّ الله -تعالى شأنه- أراد لنا حياة الجماعة، فحضَّنا عليها وأكَّد على ذلك في غير موضع من القرآن العظيم، وعلى لسان نبيّه الكريم صلى الله عليه وآله وسلم، ويكفي في التدليل على ذلك فضلُ صلاة الجماعة على صلاة الفذّ.
وأثرُ ذلك في مجتمعنا النفاسةُ والتحاسد وتظالم الأقران بالباطل!!
إن ذلك يضعُنا في مواجهة لإسلامنا، قبل أن نواجه عدونا الذي يفتأُ يتربّص بنا الدوائر.. ويقرّرُ –بإلحاح- حاجةَ أمتنا إلى إعادة صياغة العقل المسلم وتربيته بما ينسجم مع دينه وعقيدته الحقَّة!
فمفاهيمُ كالانصهار في الجماعة، والصدق، والشجاعة في مواجهة الحقيقة -مهما كانت مُرَّةً-، والتقوى الحقَّة، والتواضع الحقيقي، والعدل.. كلُّ ذلك وغيره من المصطلحات يستأهل منا وقفة تأمّلٍ ودرس لإعادة تعريفها تعريفاً قريباً من مراد الشارع الحكيم..
وقبل ذلك لا بدّ لنا من البحث في مرجعياتنا –مصادر تشريعنا-؛ لتحديدها، وتحرير ظنّي الثبوت منها، ومراجعة قواعد الاستنباط؛ في ضوء ما وفَّرته لنا أدوات العصر.
وهنا يأتـي دور رسالة "الوحدان من رواة الصحيحين..." لشيخنا الحمش وسائر جهوده النقدية في علوم القرآن والحديث والفقه والعقيدة والفكر وغير ذلك من تخصصاته الواسعة، في محاولة إعادة صياغة العقل المسلم.
ولقد رغِبَ إليَّ سيدي وأستاذي العلامة الحمش بكتابة تقرير عن مناقشة هذه الرسالة (الوحدان من رواة الصحيحين)؛ فأجبته لذلك ثقةً في اختياره، لا فرحاً بما عندي، نزولاً عند المنهج القائل: "الامتثالُ خيرٌ من الأدب"؛ فكانت السطور التي بين يديك أخي القارئ!
وبعد الاستعانة بالله والتوكّل عليه؛ تقرَّر أن يكون التقرير في ستة مطالب موجزة، هـي:
-        الأول: معرفتي بالشيخ الدكتور عداب الحمش وصلتي به
-        الثانـي: رسالة الوحدان من رواة الصحيحين: موضوعها وهدفها وصلتي بها
-        الثالث: ممهدات المناقشة: تحضيرات التشهير بالرسالة ومؤلفها وأسبابها
-        الرابع: تصوير قاعة المناقشة
-        الخامس: المناقشة ومنهجها
-        السادس: النتيجة وتعليقي عليها
وأنا إذ أختم هذا التمهيد هنا؛ أذكّر بأنّني ارتقيت مرتقًى صعباً بكتابتي لهذا التقرير، فإنَّ فيه شهادةً على حدثٍ جسيم، هزَّ الأوساط العلمية في العراق وخارجه في حقبة كانت الأشد على العراق وشعبه..
فهل أوفُّق فيه إلى العدل في الشهادة، وأحد أطرافها شيخي وأستاذي؟!
لا ريب أنه امتحان صعب لمدرسة العلامة الحمش ونجاحها في تطبيق معالم منهجها، في الشجاعة العلمية والحياد.. والله المستعان وهو ولي التوفيق!

المطلب الأول: صلتي بالشيخ الدكتور عداب الحمش ومعرفتي به
ربما لم أوفَّق إلى الاتصال بشيخي الحمش والحضور عليه إلا بعد أشهر من دخوله الميمون للديار العراقية؛ إلا أنني أتشرّف بمكانة عالية لديه وصفها هو أحسن وصف وأكمله حين كرَّمني بتقديمه لكتابي "العراق.. مستقبل بدستور غامض"؛ إذ قال حفظه الله تعالى: "... إن الأستاذ فراساً مهندس متميّز مثقَّف عاقل، ومن وراء ملازمته إيّاي سنين متواصلة وتوجيهي إيّاه، واشتراكه وعدد من إخوانه معي في تحقيق وتأليف عدد من الكتب والبحوث؛ صار باحثاًً واعياً، ومفكّراً، وشاعراً، كما غدا محدثاً ناقداً من الدرجة الأولى...
... وقد أثنيت على علم الأستاذ الباحث وجهوده وصبره معي في مُقدمات عدد من مؤلفاتي، فعرّفتُه إلى الناس، قبل أن ينشر أيّاً من كتبه المستقلّة...
فالأستاذ فراس شابٌّ متفوّق، أديب مهذّب، باحث صبور، يحبُّ الحقَّ ويناضل من أجل معرفته، فإذا عرفه؛ التزمه وتديَّن به، ودعا إليه غيره بحلم وحكمة وصبر.
ولديه علم متنوّع نيّر، وذهنٌ وقّاد، وفكر سام، وقلم رهيف، وشعر رقيق، واطّلاع ثقافيّ واسع.
وقد تأهَّل في تلاوة كتاب الله عزّ وجلّ وتجويده ومواقفه، وتوجيه مستغربه؛ فأجزته في القراءة والإقراء والأذان وإمامة الصلاة.
وتأهَّل في الحديث النبوي الشريف تأهلاً ظاهراً، فكان خامسَ خمسة أجزتهم في علوم الحديث رواية ودراية، وفي تخريج الحديث ونقده، من بين ثلاثين طالباً أجزتهم في علوم الحديث، وكلّهم يحبّون كتاب الله وسنّة رسوله، ويمسون ويصبحون في خدمتهما وتعليمهما الناس؛ وفق منهج واع في الفهم والفقه والدعوة، إن شاء الله تعالى.
فالكاتب مؤهَّل للبحث الشامل، والتحرير الواعي، والدرس النقديّ"([1]).
هذه هي صلتي بشيخي وأستاذي العلامة الحمش ولا أزيد على ما قال؛ فما تركَ -حفظه الله- زيادةً لمستزيد!
أما معرفتي به؛ فلا يليق بـي أن أقوّم شيخي؛ فليس ذلك لي ولا لأحدٍ من تلامذته وطلابه..
إلا أنه علَّمنا أنَّ العالم –أيّ عالم- يقوّم في إطار ما خلَّف من مؤلفات وطلاب؛ فإن كان حياً كشيخنا –بارك الله لنا في عُمره وعلمه-؛ زيدَ على ذلك حضورُه في المجتمع وتأثيره المباشر فيه.
فأما مؤلفاته؛ فكثيرةٌ متنوعة، وما من باب من أبواب العلوم الشرعية والتاريخية والاجتماعية والسياسية والنفسية والأدبية واللغوية إلا وطرقه بمؤلف أو يزيد، ويكفيه أنّ المطبوع من مؤلفاته –ولا يمثّل بمجموعه عُشر معشار ما ألَّف- يربو على ثلاثة آلاف صفحة من القطع الكبير والمتوسط وجُلّها في النقد، هذا غير المفقود من مؤلفاته في تطوافه البعيد بين ديار الإسلام وخاصة ما فُقِد منه في الشام ومصر الكنانة، كان بينها ثمانية آلاف بيت من الشعر.
وأما الطلاب؛ فقد تقدّم من كلامه –حفظه الله- أنّه أجاز ثلاثين طالباً في علوم الحديث، كان بينهم خمسة أُجيزوا رواية ودراية وفي تخريج الحديث ونقده..
وفي القرآن أجاز ما يربو على عشرة طلاب برواية حفص عن عاصم.. وهذا في العراق فقط!
سوى العشرات الذين أفادوا من علمه أكاديمياً في الجامعة الإسلامية ببغداد (جامعة صدام للعلوم الإسلامية سابقاً)؛ رغم المحاولات الكثيرة التي استهدفت عزل شيخنا عن المجتمع العلمي في العراق، وسيأتي لاحقا!
ومن طلابه أساتذة من حملة شهادة الدكتوراه في العلوم الإسلامية والألقاب العلمية الأكاديمية، كانوا يأتون إليه ويأخذون عليه بمجالس خاصة حضرتُ معظمها، ولا أرى مناسباً ذكرَ أسمائهم خشية أن يتحرّجوا من ذلك.
ومنهم من كان بعُمُر والده، من فقهاء العراق الكبار، أصحاب الإجازات المتنوعة والأسانيد العالية.
وأما حضوره في المجتمع وتأثيره المباشر فيه؛ فقد ملأ العراق وشغل أهله... بين تدريس في الجامعة، وحضور مؤثّر في المؤتمرات العلمية الجامعية والمحافل الدينية، وإمامة للصلاة وخطابة في جامع كبير من جوامع بغداد –هو جامع المثنّى في حي القاهرة-، ودرس عام في جامع البنية الكبير (أول وصوله للعراق)، ودرس خاص في بيتيه، في حي المنصور ثم في حي جميلة في بغداد...
وبعيداً عن الأضواء؛ فهو الفاصلُ في الخصومات بين المتخاصمين، وهو الجارُ الحريص على راحة جاره وأمنه، وهو اليد المعطاء.. ريحٌ مرسلةٌ إذا أعطى، وقلبٌ رؤوف إذا واسى، يؤثِرُ على نفسه ولو كان به خصاصة!
ولقد باع سيارته (وكانت من نوع فولفو) يوم أن كان يعاني حال عُسر؛ ليدفع تكاليف عملية زرع الكلية لأحد مصلي جامع المثنى في حي القاهرة([2]).
هذا ما تيسّر لي ههنا من وصف لمعرفتي بالشيخ؛ وهو غيضٌ من فيض مما في القلب والذاكرة!

المطلب الثاني: رسالة الوحدان من رواة الصحيحين: موضوعها وهدفها وصلتي بها
الوحدان من رواة الصحيحين ومروياتهم في الكتب الستة.. هذا هو العنوان الأول لرسالة شيخنا الذي سجَّله في كلية العلوم الإسلامية بجامعة بغداد وقدّم رسالته للمناقشة تحته.
وموضوع الرسالة الرواة الوحدان -أو الآحاد، وكلاهما وارد- في صحيحي البخاري ومسلم –رحمهما الله تعالى-: تراجمهم وتتبّع مروياتهم في الكتب الستة (سنن أبي داوود وجامع الترمذي وسنن النسائي وسنن ابن ماجة، فضلاً عن الصحيحين).
والوحدانُ مصطلحٌ أطلقه نقّادُ الحديث على الراوي الذي لم يروِ عنه إلا راوٍ واحد، وأصله: من لم يرو عنه إلا ثقة –بالمعنى العام للتوثيق-؛ لكنَّ التطبيق الواقعي أثبت أنَّ النقاد يُطلقون مصطلح "الوحدان" على من لم يرو عنه إلا راو واحد بغضّ النظر عن وصفه الإضافي.
وأما هدف الرسالة؛ فهو –عندي- على مستويين اثنين، الأول إجمالي والآخر تفصيلي (فني).
فعلى المستوى الإجمالي تهدف الدراسة إلى أمرين:
أولاً: أن تكون خطوةً جادة في طريق فهم مناهج المصنفين في الحديث الشريف، وخاصة منهم البخاري ومسلم –سيدا أهل هذا الشأن بلا منازع!-؛ "ذلك أنَّ إعطاءَ حُكم علميٍّ في قَضيَّة الجَهالَة الخطرة، ومعرفةَ مناهج أصحاب الصِّحاح في التخريج للمجاهيل، ومَن في دائرتهم، يُنهي إحدى حلقات الطَّعن في السُّنَّة النَّبَوِيَّة عِلميّاً، وانتهاءُ ذلك عَمليّاً ونفسيّاً، يحتاج إِلى تربية طويلة الأمد"([3]).
ثانياً: أن تكون نموذجاً منهجياً لتأصيل المنهج النقدي في دراسة العلوم الشرعية عامة، وعلم الحديث الشريف خاصة، مقابل المنهج الوصفي الذي يتَّبِعُه جلُّ المشتغلين بهذا العلم. قال الشيخ في مقدمة الرسالة، ص31 ما نصه: "وقد اطَّلعتُ عَلَى عشراتِ -بل مئات- الرّسائل العلميَّة، والكتب المطبوعة في علم الحَديث النَّبِوي، فرأيت أكثرَها رسائل وصفيّةً تتناول الشّخصيَّة المراد دراستها أو الكِتاب المراد دراسته في الظّواهر، والتعريف العام، والدفاع المستمرّ؛ فقلّما رأيت رسالةً لم تنتهِ إِلى أن موضوعها هو المنـزَّه عن القصور والنّقص".
أما على المستوى التفصيلي (الفني)؛ فقد هدفت الرسالة إلى هدفين اثنين:
الأَوَّل: الاستقراء التامّ لمرْويَّات هؤلاء الرُّواة، في الكتب الستّة، الذي كان استقراء شبه تام لمرْويَّاتهم في كتب السُّنَّة؛ لأنَّ من النّادر وجودَ رِوايَاتٍ كثيرةٍ لمثل هؤلاء الرُّواة، وإن وجد؛ فقد أشار الشيخ –حفظه الله- إِلى مواضعها خارجَ الكتب السّتة.
والثاني: دراسة هذه المرْويَّات دراسةً نقديَّة مستوعبة، مع البحث عن المتابعات والشّواهد -إذا لزم الأمر- بالقدر الذي يبين منهج البُخاريّ ومُسلِم في تخريج الحَديث؛ لأنَّ هذا هو هدف البحث الأساسي([4]).
قال فراس: لقد فهم مناوئو الرسالة -وعلى رأسهم لجنة المناقشة- غايةَ الرسالة وهدفها على المستويين المذكورين توّاً –في ما أظن-، وهم جميعاً من أتباع المنهج الوصفي الذي ذكره شيخُنا، فالرسالة –في نظرهم- جاءت تقوّضُ عروشاً علمية زائفة كانت ولا تزال جاثمةً على صدر البحث العلمي الشرعي –وحتى التاريخي والأدبـي- في بلادنا العربية والإسلامية، وسيأتي مزيد بيان في المطلب الثالث من هذا التقرير.
وأما صلتي بهذه الرسالة؛ فتعود إلى وقتِ كتابتها وفهرستها وطباعتها وتصحيحها، إلا أنني لم أكن من المشاركين الرئيسيين في فهرستها وطباعتها وتصحيحها، فجُهدي في كلّ ذلك لا يكاد يُذكر؛ إذ لم أكن قد تأهلتُ لفعل شيء من ذلك، سوى المساعدة في صنع بعض الفهارس والإحصاءات.
إلا أنني اطّلعت على الرسالة اطلاعاً جيداً قبل تقديمها للجامعة، وقرأتُ الأجزاء التي كانت سبباً في الزوبعة التي ثارت حول الرسالة بعد تقديمها للجامعة وقبل مناقشتها، وحضرت المناقشات المطوَّلة التي دارت في بيت شيخنا، وشاركت فيها ببعض الاستفسارات عن بعض جوانب الموضوع.
ثم حضرتُ المجلس التاريخي المطوّل الذي عُقِد بعد المناقشة في بيت الشيخ -في حي الخضراء في بغداد- خصيصاً للردّ على المناوئين، وتفنيدِ مزاعمهم حولها، وعندي الآن نسخةٌ عن التسجيل الصوتي للمجلس.

المطلب الثالث: ممهدات المناقشة: تحضيرات التشهير بالرسالة ومؤلفها وأسبابها
قبل أن أفصّل القول في هذا المطلب، أود أن أمهّد له بعرض تاريخي للحقبة التي كُتبت فيها "رسالة الوحدان" وقدّمتْ إلى الجامعة ونوقشت فيها، وكان ذلك كله بين عامي 1993-1995م.
لقد أدّى اجتياح الجيش العراقي للكويت عام 1990م وما تبعه من مواجهة مع الولايات المتحدة الأمريكية وقوات التحالف إلى تغيير جذري في توجّه النظام الحاكم في العراق آنئذ. فبدأ -مع بواكير ذلك- تغير ملحوظ في لهجة الحكومة –وخاصة الرئيس صدام حسين- لصالح الخطاب الديني، وبدأ نجم التوجّه العلماني للحزب والدولة يأخذ بالأفول!
وهنا.. انقسم التيار الإسلامي "السني" فيه إلى قسمين، فقسمٌ –وهو أقل القليل- حافظ على اعتزاله واعتبر ذلك من النفاق السياسي الذي أدمنه النظام، وأما القسم الآخر –وهو الأكبر المسيطر على الساحة السُّنّية في العراق-؛ فقد اختار ركوب الموجة، والاستفادة من التحول الحاصل في توجُّه النظام المعلن –رغم عدائه له- بطُرقٍ شتى، وحسب اجتهاد المجتهدين من رموزه ووجوهه. وربما كان من أهم الأسباب التي دفعتهم إلى ذلك إحساسُهم بـ"الخطر الشيعي" مع صعود نجم "الجمهورية الإسلامية في إيران" وضعف النظام الحاكم في العراق. فهم أرادوا تهيئة أنفسهم وطرحها كبديل لذلك النظام الآفل المنهك، مقابل "القوى الشيعية المدعومة من إيران".
وعليه.. فإنَّ الظرف الذي كُتبت فيه الرسالة كان ظرف احتقان طائفي وصراع سلطوي، وربما كان "مقدمات حرب" طائفية بامتياز!!
في هذا الظرف كُتبت الرسالة ونُوقشت، وهي التي ساحتها صحيحا البخاري ومسلم، ومنهجها نقديّ بحت، وغايتها الحقيقةُ وليس سوى الحقيقة، في بلد منكوب بخصام تاريخي نكد بين أكبر طائفتين من طوائفه الكثيرة.. فتأمل!
ثم إنّ الشيخ عداباً ليس بعراقي، وحينما دخل العراق ظنّ المشايخ المتصدرون في العراق أنه يطرح نفسه بقوة في الساحة الإسلامية العراقية، ولا يخفى ما في ذلك من استفزاز للمتصدّرين، وكثير منهم لا يحتمل ابن بلده؛ فكيف بالغريب([5])؟!
والحقّ أنّ تعطّش الساحة الإسلامية في العراق إلى مشايخ بوزنه العلمي، وعلوّ سنده، وطول رَحلته، وتنوّع مشاربه، وسعة ثقافته، كلّ ذلك أدّى إلى طرح اسمه بقوة في المحافل الإسلامية في العراق، خاصة وأنه أراد أن يؤدي دوره في المسجد والجامعة والبيت.. مع وجود من لا يُطيق وجوده في الساحة أصلاً، فضلاً عن تصدّره. ولا أدلّ على ذلك من قول أول المناقشين للشيخ ما نصه باللهجة العراقية: "اِشْجَابَك عَلْ فِقِه اِوْليدِي؟!"، أي: "وما علاقتك بالفقه يا ولدي؟!"، ظنّاً من الرجل –وهو يعدّ في فقهاء أهل العراق- أن الشيخ عداباً يزاحمه على مكانته.
وهذا سبب تقليدي -في نظري- ومن شاء؛ فليطَّلع على قصص تحاسد العلماء عبر التاريخ في كتب الرجال والتواريخ، بل إن هناك مُؤَلَّفاً جُرّد لجمع تلك القصص!([6])
وسبب ثالث.. فإنّ صفات الشيخ والتي من أهمها الجرأة والإقدام والثقة بما أفاض الله تعالى عليه من علم، كلّ ذلك أعطى انطباعاً خاطئاً عن شخصية الشيخ لدى الكثيرين ممن لا يُحْسِن التمييز بين الجرأة والإقدام وضدّهما، والثقة والغرور، والتواضع الحقّ والضِّعة.
وسببٌ آخر.. فحمله الناس جميعاً على الصدق والأمانة وسلامة الطوية! ومن عاصر الشيخ قبل مناقشة الرسالة يستطيع أن يتصور الكمّ الهائل من الزوّار على مدار الساعة، حتى لَكُنت أسأل نفسي دائماً: "كيف يمكن للشيخ توفير وقتٍ للعمل في الرسالة وغيرها من مشاريعه العلمية، وسط دوامة الضيوف تلك؟!" وقد كان من ذاك الكمّ الهائل كمٌّ كبير من المتجسِّسين عليه لصالح جهات عدّة -أولها الأجهزة الأمنية في الدولة طبعاً-، ممن يتحيّن ويتصيّد ويتسقّط ولو بالباطل!
هذه أبرز أسباب التشهير بالرسالة وصاحبها من وجهة نظري.
أما عن التشهير ذاته؛ فالجهود التي بُذلت في سبيله كبيرة -وإن كانت متبَّرة- في حملة منظمة مدعومة من أطراف عديدة.
وقد تميزت الحملة بشراستها وسَعة نطاقها؛ فلم يتركوا مسجداً ولا جامعةً ولا محفلاً له صلة بالعلم الشرعي –بل وحتى المحافل غير المشتغلة بالعلم الشرعي، ومنها كليات الهندسة والطب والعلوم وغيرها– إلا وبثوا فيه دعايتهم المغرضة ضد الرسالة وصاحبها..
كما تميّزت بعلنيتها، حتى أن أحد المناقشين –وهو أصغرهم عمراً وقدراً- أوقف ساعاتٍ عديدة من محاضراته في كلية العلوم الإسلامية للتشهير بالرسالة وصاحبها، ولا يخفى ما في ذلك من دلالات قوية على أنّ الأمر كان يجري بعلم عمادة الكلية والأجهزة الأمنية فيها.
وتميزت أيضاً بهبوطها وبُعدها في كثير من الأحيان عن المنطق، بل والسخف في الاتهام والفجور في الخصومة، فـ"الحمش مُدّع للألوهية تارةً، وأخرى فمدّع للنبوة –رغم ما بين الادّعاءين من تناقض ظاهر-، وثالثة فهو نُصيري..." إلى غير ذلك!
وتميزت بعد ذلك بطول النفس؛ فقد اتصلت تلك الحملة لأشهر قبل المناقشة، وربما كان للحملة ذاتها الأثر الكبير في إطالة المدة بين تقديم الرسالة إلى القسم وبين مناقشتها؛ إذ اعتذر عدد من الأساتذة عن تقويمها علمياً –إثر الضجّة التي ثارت حولها-، مما اضطر القسم إلى أن يبعثها إلى جامعة خارج العراق للتقويم العلمي، في سابقةٍ ربما كانت الأولى في كلية العلوم الإسلامية، رغم وجود عدد من المشايخ ممن يحمل درجة الدكتوراه ومرتبة الأستاذية في الحديث الشريف.
وتميّزت أخيراً بإعلان الحكم المسبق على الرسالة؛ فقد صرّح غير واحد من لجنة المناقشة وممن لهم صلة وطيدة بهم بأنّ "الرسالة مردودة، ومن شاء أن يتفرّج، فما عليه إلا الحضور يوم المناقشة ليرى بأم عينه ما سنفعله بالشيخ عداب..."؟!
هذا بعض ما يمكن أن يُقال في حملة التشهير تلك.. الحملة المجنونة التي مهدت للجريمة التي ارتُكِبَتْ بحق العلم ومعاهده وأهله في العراق خاصّة!

المطلب الرابع: تصوير قاعة المناقشة
يعلم من له صلةٌ بمناقشات رسائل الدراسات العليا في كلية العلوم الإسلامية بجامعة بغداد أن مساحة قاعة المناقشة لا تزيد على مائة متر مربع إلا بقليل. ورغم كثرة الرسائل التي نوقشت فيها –وكنت حريصاً على حضور العديد منها-؛ إلا أنّ القاعة لم تشهد حضوراً حاشداً –في ما أعلم- سوى مرة أو مرتين، إلا أنّه لم يتجاوز حدودها البتة!
لذا.. فقد كان يوم مناقشة "رسالة الوحدان" يوماً تاريخياً في حياة تلك القاعة التي لم تستوعب حشود الحاضرين، فغصّت بهم ممرات الكلية الداخلية وساحتها الخارجية التي زودت بمكبرات صوت لنقل وقائع الحدث!
كنت ممن بكّر في الحضور، ورغم ذلك فقد وجدت صعوبة في دخول القاعة بعد فتحها؛ إذ تدافع الحضور على بابها، وصخبهم يغطي المكان ويصكّ الآذان..
في هذا الخضم ومع انحباس أنفاسي من شدّة التدافع، وإذا بأحدهم ممن يليني في موجة البشر تلك يقول لصاحبه وهو يحاوره: "يُقال: إن أباه نصيري وأمه إسماعيلية!!!"، والمقصود بذلك الشيخ طبعاً،
ثم أسمعُ لآخر يقول: "إنه شيعي باطني مزروع لتمزيق صفّ أهل السنة!!"،
وثالث قريب منه: "لكن من يسمعه يُفتتن بمنطقه.. لسانه حلوٌ يا رجل!"..
دخلنا القاعة بعد لأَي، واتخذت لي موقعاً قريباً من المنصة، التي خُصِّص الصفّ الأول المواجه لها من المقاعد لكبار المسؤولين، وكان على رأسهم عزت إبراهيم الدوري نائب رئيس مجلس قيادة الثورة –الرجل الثاني في الدولة العراقية وقتذاك-.. إلا أنّ اللافت في الصف الأول حضورُ شابٍ في مقتبل العمر يعتمر عمامة سوداء (رمز علماء أهل البيت عند الشيعة)، وقد بالغ وقتها بالحفاوة بعزَّت إبراهيم، وكان كثير الالتفات والحركة! فهل كان حضورهما تتمة لسيناريو المسرحية المهزلة؟
الله تعالى أعلم!
وقد كان من بين الحضور أيضاً جمعٌ من المشايخ المعمَّمين، وقد ابْتُليتُ بأحدهم جاراً لي في مقعدي الذي اخترْت، وكان مُشاغباً لا يعرفُ أدب حضور المناقشات العلمية رغم أنه من حملة شهادة الدكتوراه في الشريعة!
إلا أنَّ السمة الغالبة التي كانت تسيطر على المشهد في القاعة هو التوتر البادي على الوجوه، والتشنج الذي طبع النقاشات الجانبية بين الحضور قبل المناقشة وأثناءها، وكثرة تدخل الحضور بتعليقات أثناء المناقشة، كان الكثير منها سمجاً لا يليق بمناقشة علمية!

المطلب الخامس: المناقشة ومنهجها
لست معنياً هنا بتوصيف منهج المناقشة من الناحية الإجرائية، فهي لا تختلف كثيراً عن غيرها من المناقشات من هذه الجهة. إلا أنّ منهج المناقشة المقصود هنا هو النبرة المتشنجة التي بدأ بها المناقشون والتي كانت تحمل في طياتها استهزاءً مقصوداً في أحايين كثيرة، واستخدامهم لألفاظ نابية لا تجوز في الحوار العادي، فضلاً عن نقاش على منصة جامعية.
لقد كانت ألفاظ الأساتذة المناقشين تفصح عن تِرَةٍ ظاهرة، وشحن طويل، بل وكانت تشي للعارف بملابسات الحدث عن نتيجة المناقشة!
لكن السمة الأبرز لمنهج المناقشة هو انحرافها كثيراً عن مناقشة مضمون الرسالة إلى "محاكمة" صاحبها على ما كان يُنْقَل عنه في خطبه ومجالسه، بَلْه ما كان مكتوباً في أصل الرسالة ورُفع من النسخة الأخيرة المقدمة للجامعة بمشورة المخلصين للشيخ دفعاً للالتباس وسوء الفهم وغير ذلك مما لا يقدح بمحتوى الرسالة، بل بعقولٍ مسطحة يُخشى من فهمها السقيم وغوغائيتها المؤذية؟!
وبعيداً عن ألفاظ المناقشين، فقد سيطرت عليهم شهوة تكثير الملاحظات على الباحث ولو بالباطل، مما أحرجهم في مواضع كثيرة نتيجة تسرعهم في وضعها..
فأولهم يدّعي بأن مقدمة الرسالة تنضح بوحدة الوجود! وهي لا تنضح لمن قرأها بعين عقله إلا بشفافية راقية وصوفية سامية وأسلوب أدبي رائع!
وآخرُ يحتارُ في تفسير كلمة "عكساً" من قول الشيخ في هامشٍ من هوامش الرسالة قصد بها بعض كلام الكاتب الشيعي أسد حيدر: "... لَوَجَد فيه إنصافاً منقطع النظير عكساً"، حتى إذا ما بيّن له الشيخ المراد، لم يزد على أن قال باللهجة العراقية: "شِيلها"، أي: "احذفها".
وثالثٌ يعترض على إثبات الشيخ عداب كلمةَ "وثاقة" من الناحية اللغوية الصرفية ويحيله على مختار الصحاح؟! ناسياً أنّه مصطلح متداول بين أهل الحديث: متقدمِهم ومتأخرِهم... وغير ذلك من الهفوات التي يضيق المقام بذكرها.
إلا أنّ هذا المنهج المتَّبَع في المناقشة جاء –في ما أرى- في غير صالح خصوم الرسالة وصاحبها، ويكفي أنَّ أحد السلفيين الذين حضروا موغَري الصدر على الشيخ ورسالته من كثرة التشويش والتهويل، أسرع إلى أحد زملائي من تلامذة الشيخ عداب –وهو يعلم مكانه منه- قالا له: "ما كنت أتمنى أن يطأطئ الشيخ رأسه ساعة نطقوا بالحكم وردّوا الرسالة، فإن الرجلَ جبل.. والجبل لا يُطأطئ رأسه!"([7]).

المطلب السادس: النتيجة وتعليقي عليها
أسلفت قبل قليل بأن النتيجة كانت معروفة سلفاً، ولم تكن المناقشة إلا عملاً إجرائياً يتطلبه المصادقة على الحكم المسبق الذي تآمر عليه من تآمر في العلن لا في السرّ.. والنتيجة كانت كما هو معروف ردّ الرسالة "لعدم استيفائها لشروط البحث العلمي" كما جاء على لسان رئيس اللجنة المناقشة عند نطقه بالحكم.
بل إن الضوء الأخضرَ قد أُعطي –في رأيي- للجنة على لسان عزّت الدوري الذي يُتَّهم الشيخ عداب بأنه كان من أزلامه –حاشاه!-.. فقد سمعت الدوريَّ –وكنت خلفه مباشرةً بسبب اكتظاظ القاعة- يكلّم أحد المشايخ المناقشين –ولا أسمّي- في استراحة الصلاة التي أعلن عنها رئيس اللجنة قائلاً: "لا بُدّ أن تضعوا حدّاً لتجاوز الطلاب على أساتذتهم في منصة المناقشة، مهما علا شأن الطالب"([8])، أو كما قال، فتأمّل دعم الدولة آنذاك للرجل!؟!
وربما كانت النتيجة قاسيةً على الشيخ عداب –وقد كانت كذلك قطعاً-، إلا أنّ الله سبحانه وتعالى ادّخر له فيها ما لم يكن في حسبان أحد، فمن أهم نتائج تلك المناقشة ونتيجتها تلك ما يأتـي:
-        رَبِح الشيخ عداب الحمش رسالتي دكتوراه بدل واحدة، فها هي "الوحدان من رواة الصحيحين" تُقدم للوسط العلمي المتخصِّص في عالمنا العربي والإسلامي مع حيثياتها جميعاً، وهو قادر على تقويمها بما تستحق، ومن قبلها رسالة الدكتوراه البديلة التي كتبها الشيخ بعد هذه لكنها نشرت قبلُ "الإمام الترمذي ومنهجه في كتابه الجامع".
-        لقد كشفت المناقشة –في ضمن ما كشفت- جانباً من الصراع الطائفي الذي كان دائراً في العراق آنئذ والذي طفا على السطح بعد احتلال بغداد الأخير بصورة بشعة تجلّ عن الوصف. ولو استوعب المشايخ (شيعة وسنة) في العراق الكلمة السواء التي دعاهم إليها الشيخ الحمش في التعايش والحوار والتحرر من عقد الماضي؛ فربما كان للتاريخ دورة أخرى، لكن ليقضي الله أمراً كان مفعولاً.
-        كما كشفت محنة الأوساط العلمية في العراق وفقدانها القدرة على استيعاب المنهج النقدي في الدراسات الجامعية، واقتصارها على المنهج الوصفي في تلك الدراسات خوفاً من المساس بالموروث بعُجَره وبُجَره، ولتذهب الحقيقة إلى حيث...
-        أما المناقشون؛ فقد امْتُحِنوا أيما امتحان بالشيخ ورسالته، وزالت هالاتٌ كانت تتوج بعضهم تقوًى وإمامة.. ورغم أنّ بعضهم أصبح ذا شأن سياسي كبير في عراق ما بعد الاحتلال الإنجلو-أمريكي بسبب مواقفه المعلنة المناوئة للاحتلال –رغم تطابقها في كثير من الأحيان مع مواقفنا-؛ إلا أنني شخصياً لا أملك القدرة على النظر إليهم وإلى سعيهم بمعزل عن خيانتهم الأمانة العلمية التي وُسّدت إليهم يوم وقفوا على رؤوس الأشهاد في منصة المناقشة يفترون ويشوشون، بل ويكذبون بما انعكس خطراً حقيقياً على حياة رجلٍ من أهل العلم وقف حياته لخدمة العلم الشرعي، فتخرَّج به العشرات من طلاب العلم، وكتب آلاف الصفحات من العلم المحرّر الذي لا يجهله مثلهم.. فما ظَنُّك بمصير رجل اتهمه مشايخ العراق بسبّ الصحابة –رضوان الله تعالى عليهم- والحطّ على أم المؤمنين عائشة –رضي الله تعالى عنها- ومحاولة نسف السنة النبوية الشريفة بتقويض صحيحي البخاري ومسلم، وغير ذلك من الافتراءات التي نشروها بين العوام قبل المناقشة وتولّوا كبرها في المناقشة، ما ظنك بمصيره بعد ذلك.. وكيف يمكن الفصل بين هذا وذاك، إن لم تُعلن توبة من ذلك كلّه؟!
ربَّنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا، ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به، واعف عنّا، واغفر لنا، وارحمنا.. وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

وكتب
أبو علي السجاد
فراس بن عبد الرزاق بن محمد الحسن
الكندي السودانـي البغدادي



([1]) السوداني، فراس: "العراق.. مستقبل بدستور غامض: نقد قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية"، مقتطفات من ص...، ط1، نشر المكتبة القانونية – دار عمار، بغداد – عمان، 2005م.
وأعتذر للقارئ عن نقل أوصاف المدح الذي تضمَّنه كلام شيخنا –حفظه الله تعالى-؛ إلا أنّ المطلب متداخل مع غيره بما لا يمكن فصله، وشيخنا لا يجامل على الحق على أية حال!
([2]) رغم عظم التضحية التي عاناها شيخنا في هذه الحادثة، إلا أنني أرى في ذكر هذا المثال الفذّ هنا اختزالاً لتضحياته الجمة التي واسى بها أحبابه من العراقيين وغير العراقيين في حال عسر الحصار الاقتصادي على العراق في عقد التسعينات من القرن الماضي! فأسأله المعذرة، وأسأل له الله الرّزاق العليم أن يخلف عليه في الدنيا والآخرة، جزاء ما أعطى وكفاء ما واسى.. آمين!
([3]) الحمش، عداب محمود (الدكتور): "الوحدان من رواة الصحيحين"، مقدمة الرسالة، ص32 من النسخة الإلكترونية المعدّة للطبع. وستكون الإحالات جميعاً إليها.
([4]) الحمش: "الوحدان من رواة الصحيحين"، مقدمة الرسالة، ص36، بتصرف يسير.
([5]) لم يكن الشيخ عداب غريباً على العراق وأهله في حقيقة الأمر، ويكفي تتبع شجرة نسبه الشريف لإثبات عراقيته الصميمة، بل يكفي اندماجه في المجتمع العراقي ومواساته له في ساعة العسرة.. وما سقته هنا من وصفه بالغربة عن العراق إنما هو من باب الحكاية.. فتنبه!
([6]) هو كتاب "تحاسد العلماء" للشيخ عبد الله بن حسين الموجان، وليس الكتاب بين يدي لأوثقه توثيقاً تاماً!
([7]) حدثني أحد زملائي من تلامذة الشيخ –وكان واقفاً جنبه حين النطق بالحكم- قائلاً: "سمعت الشيخ يقول عند نطقهم بالحكم وقد طأطأ رأسه: الحمد لله! وما زاد عليها كلمة غيرها!".
([8]) لا ريب أن ما قاله الدوريّ صحيح من حيث الأصل، فالطالب -مهما علا شأنه- يبقى طالباً، ويجب أن يلتزم بما ألزم به نفسه من قبوله الجلوس في الميزان الأكاديمي! إلا أن الذي حصل مع شيخنا الحمش يخرج فيه هذا القول من التوجيه الصحيح إلى التحريض القبيح، خاصة مع تجاوز الأساتذة حدود المناقشة العلمية كما وصفنا قبل!